سورة الشعراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)}
القصة الثالثة: قصة نوح عليه السلام:
اعلم أنه تعالى لما قص على محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح عليه السلام، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره، لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك كذبه قومه فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} وإنما قال (كذبت) لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة، وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين:
أحدهما: أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين وثانيهما: أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة.
وأما قوله: {أَخُوهُمْ} فلأنه كان منهم، من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم، ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولاً خوفهم، وثانياً أنه وصف نفسه، أما التخويف فهو قوله: {أَلاَ تَتَّقُونَ}.
واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف، وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال، فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله: {أَلاَ تَتَّقُونَ}.
وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين: أحدهما: قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} وذلك لأنه كان فيهم مشهوراً بالأمانة كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش فكأنه قال كنت أميناً من قبل، فكيف تتهموني اليوم؟ وثانيهما: قوله: {وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه دعاهم للرغبة، فإن قيل: ولماذا كرر الأمر بالتقوى؟ جوابه: لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله، وفي الثاني: ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجراً فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً! ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً، وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول، ثم إن نوحاً عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون}.
قال صاحب الكشاف: وقرى {وأتباعك الأرذلون} جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في {واتبعك} وقد جمع أرذال على الصحة وعلى التكسير في قولهم: {الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] والرذالة الخسة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة.
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة، لأن نوحاً عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها، فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله: {وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: {الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} [هود: 27] ثم قال: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى} معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى، ولما قال: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى} وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله: {لَوْ تَشْعُرُونَ} ثم قال: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك، فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، ثم إن نوحاً عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد، فقالوا: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة، فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم، وقال: {رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك {فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ} أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة، والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق، والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه: {وَنَجّنِى} ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى، وقد تقدم القول في قصته مشروحاً في سورة الأعراف وسورة هود.
ثم قال تعالى: {فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} قال صاحب الكشاف: الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلاً ورجالاً، فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم، وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم.


{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}
القصة الرابعة: قصة هود عليه السلام:
اعلم أن فاتحة هذه القصة وفاتحة قصة نوح عليه السلام واحدة فلا فائدة في إعادة التفسير ثم إنه تعالى ذكر الأمور التي تكلم فيها هود عليه السلام معهم وهي ثلاثة: فأولها: قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ} قرئ {بِكُلّ رِيعٍ} بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع، ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها، والآية العلم، ثم فيه وجوه:
أحدها: عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبئون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام والثاني: أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخراً فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث والثالث: أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً طوالاً فكان ذلك عبثاً لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم الرابع: بنوا بكل ريع بروج الحمام.
وثانيها: قوله: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} المصانع مآخذ الماء، وقيل القصور المشيدة والحصون {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد، وفي مصحف أبي: (كأنكم)، وقرئ (تخلدون) بضم التاء مخففاً ومشدداً، واعلم أن الأول إنما صار مذموماً لدلالته إما على السرف، أو على الخيلاء، والثاني: إنما صار مذموماً لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر.
وثالثها: قوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} بين أنهم مع ذلك السرف والحرص فإن معاملتهم مع غيرهم معاملة الجبارين، وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا الوصف في العباد ذم وإن كان في وصف الله تعالى مدحاً فكأن من يقدم على الغير لا على طريق الحق ولكن على طريق الاستعلاء يوصف بأن بطشه بطش جبار، وحاصل الأمر في هذه الأمور الثلاثة أن اتخاذ الأبنية العالية، يدل على حب العلو، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، فيرجع الحاصل إلى أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو وهذه صفات الإلهية، وهي ممتنعة الحصول للعبد، فدل ذلك على أن حب الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه وخرجوا عن حد العبودية وحاموا حول ادعاء الربوبية، وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل كفر ومعصية، ثم لما ذكر هود عليه السلام هذه الأشياء قال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والحرص والتجبر، ثم وصل بهذا الوعظ ما يؤكد القبول وهو التنبيه على نعم الله تعالى عليهم بالإجمال أولاً ثم التفصيل ثانياً فأيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حيث قال: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} ثم فصلها من بعد بقوله: {أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ وجنات وَعُيُونٍ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فبلغ في دعائهم بالوعظ والترغيب والتخويف والبيان النهاية فكان جوابهم {سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين} أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه، واستخفافهم بما أورده فإن قيل لو قال أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد جوابه: ليس المعنى بواحد (وبينهما فرق) لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله (ومباشرته)، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ، ثم احتجوا على قلة اكتراثهم بكلامه بقولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} فمن قرأ {خُلُقُ الأولين} بالفتح فمعناه أن ما جئت به اختلاق الأولين، وتخرصهم كما قالوا: {أساطير الأولين} [الأنعام: 25] أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب، ومن قرأ {خُلِقَ} بضمتين وبواحدة، فمعناه ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا به يدينون ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر، أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ويسطرونه، ثم قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد، فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم، وقد سبق شرح كيفية الهلاك في سائر السور، والله أعلم.


{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)}
القصة الخامسة: قصة صالح عليه السلام:
اعلم أن صالحاً عليه السلام خاطب قومه بأمور:
أحدها: قوله: {أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هاهنا ءامِنِينَ} أي أتظنون أنكم تتركون في دياركم آمنين وتطمعون في ذلك وأن لا دار للمجازاة.
وقوله: {فِيمَا هاهنا ءامِنِينَ} في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله: {فِى جنات وَعُيُونٍ} وهذا أيضاً إجمال ثم تفصيل، فإن قيل: لم قال: {وَنَخْلٍ} بعد قوله: {فِي جنات} والجنة تتناول النخل جوابه من وجهين:
الأول: أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على فضله على سائر الأشجار والثاني: أن يراد بالجنات غيرها من الشجر، لأن اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل، والطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ، والهضيم اللطيف أيضاً من قولهم: كشح هضيم، وقيل الهضيم اللين النضيج كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره.
وثانيها: قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين} قرأ الحسن {وَتَنْحِتُونَ} بفتح الحاء، وقرئ {فارهين} و{فَرِهِينَ} والفراهة الكيس والنشاط، فقوله: {فارهين} حال من الناحيتين.
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الحالية، وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة.
وثالثها: قوله تعالى: {وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين} وهذا إشارة إلى أنه يجب الاكتفاء من الدنيا بقدر الكفاف، ولا يجوز التوسع في طلبها والاستكثار من لذاتها وشهواتها، فإن قيل ما فائدة قوله: {وَلاَ يُصْلِحُونَ} جوابه: فائدته بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح، كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح، ثم إن القوم أجابوه من وجهين:
أحدهما: قولهم: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} وفيه وجوه:
أحدها: المسحر هو الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله.
وثانيها: {مِنَ المسحرين} أي من له سحر، وكل دابة تأكل فهي مسحرة، والسحر أعلى البطن، وعن الفراء المسحر من له جوف، أراد أنك تأكل الطعام وتشرب الشراب.
وثالثها: عن المؤرج المسحر هو المخلوق بلغة بجيلة وثانيهما: قولهم: {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} وهذا يحتمل أمرين: الأول: أنك بشر مثلنا فكيف تكون نبياً؟ وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين، لكانوا من جنس الملائكة الثاني: أن يكون مرادهم إنك بشر مثلنا، فلابد لنا في إثبات نبوتك من الدليل، فقال صالح عليه السلام: {هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} وقرئ بالضم، روي أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً، فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل عليه السلام: «صل ركعتين وسل ربك الناقة»، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم وحصل لها سقب مثلها في العظم، ووصاهم صالح عليه السلام بأمرين:
الأول: قوله: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، وشربهم في اليوم الذي لا تشرب هي.
والثاني: قوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} أي بضرب أو عقر أو غيرهما {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد، ثم إن الله تعالى حكى عنهم أنهم عقروها.
روي أن (مصدعاً) ألجأها إلى مضيق (في شعب) فرماها بسهم (فأصاب رجلها) فسقطت، ثم ضربها قدار، فإن قيل لم أخذهم العذاب وقد ندموا جوابه من وجهين:
الأول: أنه لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل.
الثاني: أن الندم وإن كان ندم التائبين، ولكن كان ذلك في غير وقت التوبة، بل عند معاينة العذاب، وقال تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} [النساء: 18] الآية. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10